الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
منذ لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وما حملته تلك اللحظة من زلازل هزّت البنية السياسية والأمنية، لم تبرأ الأرض العراقية من جراحها بعد.
فما تزال آثار ذلك الحدث الكارثي جاثمة على صدور العراقيين، تُثقل حاضرهم وتقيّد مستقبلهم.
لم تُفلح مسرحيات الانتخابات ولا سيناريوهات الانسحاب المكرّرة في إخفاء جوهر الحقيقة؛ إذ ظلّ المشهد محكومًا بوصاية خارجية تمارس نفوذها من وراء الستار، وتتحكّم بخيوط القرار العراقي كما تتحكّم اليد الخفية بدمية على مسرح مظلم.
منذ اللحظة الأولى، لم يكن الهدف إسقاط النظام السابق وحسب، بل إعادة تشكيل الدولة على نحو يضمن بقاء الهيمنة لعقود طويلة.
ولأجل ذلك، أُعيد رسم الخرائط السياسية والاجتماعية بيد القوى الكبرى، التي عملت على تمكين شبكة من الحلفاء والعملاء جاؤوا معها تحت لافتات براقة وشعارات مخادعة.
هؤلاء، الذين كانوا بالأمس على هامش المشهد، انتقلوا فجأة إلى قلب السلطة، ومن ضيق العوز إلى بحار المليارات.
لم يعودوا شركاء في الحكم، بل أصبحوا أوصياء على مفاصله الأساسية: الثروة، العقود، المناصب، وحتى القرار السيادي الذي صار أسيرًا خلف ستار المصالح الدولية، غائبًا عن الإرادة الوطنية التي أُريد لها أن تُقصى عمدًا.
قد يبدو المشهد، للوهلة الأولى، وكأن العراق يدير شؤونه عبر مؤسسات سياسية منتخبة، غير أنّ ما يجري خلف الكواليس يكشف حقيقة مغايرة تمامًا.
فوزارة الخارجية الأمريكية تمسك بخيوط اللعبة بدقة، وتتحكم في توازناتها كمن يضبط عقارب ساعة مصممة على قياس مصالحه، فيما يتحول الساسة العراقيون إلى مجرد موظفين في سلم بيروقراطي تابع لواشنطن، وإن تزيّنوا بألقاب من قبيل “رئيس وزراء” أو “وزير”.
ولا يقف الأمر عند حدود المشهد المدني والسياسي؛ فاليد الأمريكية تمتد عميقًا في البنية العسكرية والأمنية.
الجيش العراقي ما زال يتحرك ضمن إشراف وزارة الدفاع الأمريكية ورئاسة الأركان هناك، بينما تضطلع وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بدور الموجّه الذي يراقب المسار، فيصححه إن انحرف عن الخطوط الحمراء المرسومة مسبقًا.
تلك الخطوط لم تُرسم عبثًا، بل هي أطر استراتيجية تحاصر أي نزوع نحو الاستقلال الحقيقي، وتبقي العراق أسير ذريعة “الحاجة إلى الدعم الخارجي”، حتى وإن بدت هذه الحاجة في ظاهرها خيارًا سياديًا.
بعد أكثر من عقدين على الاحتلال، يبدو المشهد الإعلامي في العراق وكأنه يتنفس من رئة خارجية. فعلى الرغم من الضجيج المفتعل والتناقضات التي تبدو على السطح بين القنوات والجهات الإعلامية، إلا أنّ خيوطها جميعًا تجتمع في إطار استراتيجي واحد، رسمته قوى النفوذ لتضمن بقاء الأجندات الخارجية فاعلة وحاضرة.
الحرية الإعلامية التي بشّر بها المحتل لم تكن سوى قناع برّاق يخفي حقيقة مشروعه، إذ تحوّلت إلى أداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفق قوالب جديدة، تكرّس الاصطفاف وتعمّق الشروخ في الجسد العراقي.
لم يعد الإعلام مجرد مرآة تعكس الواقع، بل صار مصنعًا لإنتاجه وتوجيهه، يزرع بذور الانقسام ويجهض أي إمكانية لولادة مشروع وطني جامع.
أما ما يُدار في الخفاء، فهو أشد خطورة؛ إذ تتحرك خيوط كثيرة في غرف عمليات مرتبطة بأجهزة خارجية، ترسم مسار الخطاب وتحدد سقف الكلام، لتبقى الحقيقة حبيسة أقبية التلاعب والتمويه.
أما البرلمان العراقي، الذي كان يُفترض أن يكون صمام الأمان للتشريع والرقابة، فقد انحدر في نظر الشارع إلى مسرح عبثي لا يثير سوى السخرية.
جلساته المعلنة نادرة، وأبوابه المغلقة أكثر حضورًا من نوابه، ولا يلتقي الفرقاء تحت قبته إلا حين تدور النقاشات حول الامتيازات والمخصصات، لا حول التشريعات التي تمسّ حياة الناس.
أما القوانين المصيرية، فتبقى رهينة الصفقات الخفية التي تُدار في كواليس السياسة، ليجري تمريرها وفق معادلة المحاصصة التي خنقت العراق منذ عام 2003.
قانون الموازنة، الذي كان يُفترض أن يكون أداة لإنعاش الاقتصاد وتحقيق العدالة في توزيع الثروات، تحوّل إلى رقم سنوي يزداد كل عام بزيادات طفيفة تضمن نصيب كل جهة سياسية، وفق مساومات تُبقي شبكة النفوذ متماسكة.
وليس من المبالغة القول إن هذه اللعبة التشريعية ما هي إلا صورة أخرى من صور الاحتلال، ولكن بأدوات محلية؛ إذ إن القرار الأخير غالبًا ما يُصاغ في الدوائر الأمريكية، التي ترسم الإطار العام وتترك للساسة المحليين هامش المناورة داخل حدودها المرسومة.
من الخطأ أن نُحمّل جهة عراقية بعينها مسؤولية الفشل، فالحقيقة التي لا يمكن حجبها أن الإدارة العليا للمشهد السياسي كانت وما تزال أمريكية بامتياز.
إن المسؤولية الكبرى عن الإخفاق في تحقيق الاستقرار وبناء مؤسسات راسخة تقع على واشنطن، التي لم تكتفِ باحتلال العراق عسكريًا، بل فرضت نموذجًا للحكم مشوّه الملامح، يقوم على مبدأ “التوازنات الطائفية والإثنية” بدلًا من أسس الدولة المدنية الحديثة.
لم يكن سقوط النظام السابق نهاية المطاف، بل كان بداية لمشروع أعمق يستهدف إعادة صياغة الوعي السياسي العراقي.
وقد تحقق ذلك عبر إدخال مصطلحات لامعة المظهر، مثل “شركاؤنا في الوطن” و”المكوّنات”، التي تبدو في ظاهرها دعوة إلى التعايش، لكنها في حقيقتها أدوات لإعادة إنتاج الانقسام الطائفي وترسيخه في الوجدان الجمعي، لتبقى الهوية الوطنية هشة، مرتبطة بوصاية الخارج، وعاجزة عن بناء كيان مستقل يستعيد سيادته المفقودة.
بعد أكثر من عشرين عامًا على الاحتلال، تلاشت الأوهام التي زيّنتها وعود الديمقراطية والسيادة الكاملة، ليبقى الواقع شاهدًا على نظام سياسي هشّ، يقوم على تبعية اقتصادية وأمنية، ويُدار بخيوط خفية من وراء الستار الأمريكي.
أمام هذه الحقيقة، يتبدّى التحدي الأكبر: كيف يمكن للعراق أن يخرج من نفق الوصاية إلى فضاء الاستقلال الحقيقي؟
إن هذا المسار لن يُشقّ إلا بإرادة وطنية تتجاوز المحاصصة، وتكسر قيود الارتهان للخارج، لتعيد للعراق موقعه الطبيعي دولةً ذات سيادة كاملة، لا ساحة تُصفّى فيها الحسابات الدولية ولا مسرحًا لتجارب الآخرين.
|