
د. عامر الطائي ||
في ذكرى استشهاد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، يقف المؤمنُ الرساليّ ليعيد قراءة سيرة هذا الإمام العظيم، لا بوصفه شخصيةً تاريخيةً مقدسة فحسب، بل بوصفه مشروعًا إصلاحيًا متكاملًا، وقائدًا نهضويًا زرع بذور الوعي في أرض الأمة، وفتح آفاق الفكر في زمن الانغلاق والاضطراب.
لم يكن الإمام الصادق عليه السلام مجرد عالمٍ يُدرّس الفقه والعقيدة، بل كان قائدًا يعمل في أخطر ساحات الصراع: ساحة تشكيل العقل الإسلامي، وبناء الوعي المقاوم، وفضح أدوات التحريف والتمييع. في زمان اشتبك فيه السلطان مع الخط الديني، خاض الإمام صراعًا معرفيًا هادئًا ولكن عميقًا، ضد الجهل، وضد تسليع الدين، وضد الانغلاق الطائفي والمذهبي.
لقد كانت مدرسته، التي ضمّت آلاف التلاميذ من مختلف الاتجاهات، تجربةً استثنائيةً في تاريخ الفكر الإسلامي، حيث التقى فيها الحديث بالكلام، والفقه بالفلسفة، والروحانية بالحراك الاجتماعي. لم يكن الإمام الصادق عليه السلام حبيس المسجد، بل كان منارةً حضاريةً تضيء ظلمات الانحراف، وتعلّم الأمة أن الاجتهاد الحقيقي ليس في الفروع الفقهية فقط، بل في فهم جوهر الرسالة، وفي مقاومة الانحطاط السياسي والثقافي على السواء.
وهو حين كان يُدرّس، كان يُوجّه؛ وحين كان يُناظر، كان يُجاهد؛ وحين كان يُصلي، كان يُخطّط؛ وحين كان يصمت، كان يربّي رجال المرحلة، من أمثال هشام بن الحكم، وزرارة، وجابر الجعفي وغيرهم، ممن حملوا هذا المشروع العلمي الثوري على أكتافهم، واستمروا به في أحلك الظروف.
فما أحوجنا اليوم إلى إعادة بعث روح الإمام الصادق، لا كتاريخ نتمجده، بل كمشروع ننهض به؛ مشروعٍ يعلمنا أن مقاومة الطغيان تبدأ من تحرير العقل، وأنّ الإصلاح لا يكون إلا ببناء إنسان مفكر، وواعٍ، ومتديّن بصدق، لا بانفعال.
إن الإمام الصادق عليه السلام لم يمت. بل الذي مات هو ضمير الأمة حين تناست وصاياه، وهمّشته في زحمة التقاليد. فلنحيي ذكراه ليس بالحزن فحسب، بل بإعادة إحياء قضيته الكبرى: قضية بناء الإنسان الرسالي الواعي.