
ريما فارس ـ لبنان ||
ليس في التاريخ البشري مَثلٌ أدل على الاتّزان في وجه التقلبات كالنبي أيوب عليه السلام.
كان في علياء النعمة: مال وفير، صحة وعافية، أهل وولد، ومكانة رفيعة في قومه. عاش في طرف السعة، في كفّة اليسر من أرجوحة الحياة.
لكن تقلب الدهر ليس عيبًا فيه، بل اختبار.
وفي لمح البصر، تبدّلت الكفّة:
ذهب المال، وفُقد الأهل، وضَعُف الجسد، حتى نبذه الناس من حوله، إلّا زوجته.
كل شيء خذله، لكن قلبه ظلّ ثابتًا…
لم يتأرجح إيمانه، لم يرتجف يقينه، لم يقل: لماذا أنا؟
بل قال في أضعف لحظاته:
{رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ}
عبارة قصيرة… لكنها تجسيد كامل للاتزان الروحي.
لم يشكُ، بل ناجى.
لم يتّهم، بل استعان.
لم يسقط في الهوة، بل صعد على سلّم الصبر.
أيوب لم يكن نبيًّا فقط…
بل كان درسًا، حيًّا، خالدًا، على أن الحياة لا تثبت، لكن الإنسان يمكنه أن يثبت.
أن يظل متوازنًا حين يفقد كل شيء، لأنه لم يفقد الله.
فاستجاب الله له، وقال:
{فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ فَكَشَفْنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَـٰهُ أَهْلَهُۥ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةًۭ مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَـٰبِدِينَ}
وكأن الله يقول لنا: من يُحسن التأرجح بالصبر، يُرفع برحمة.
ونحن اليوم، لا نحتاج أن نخسر كل شيء لنفهم معنى الثبات…
يكفي أن نتأخر عن حلم، أو نخسر صديقًا، أو تمرّ بنا خيبة أمل،
لنشعر أن الدنيا تميل بنا بشدّة…
لكن ما دمنا نُمسك حبل الرضا، فلن نسقط.
أحيانًا، يكون البلاء هو اللغة التي يتكلم الله بها معنا،
حين يصمت كل شيء حولنا.
وإذا كان أيوب قد خسر المال والجسد،
فالبعض اليوم يخسر السلام الداخلي، أو يذبل من فرط الانتظار.
لكن الرسالة واحدة:
من صبر واتّزن، لا يضيع، بل يُكتَب اسمه بين العابدين،
ويصير ذكرى خالدة في سجلّ المقرّبين.
أرجوحة الحياة لن تتوقف عن الحركة،
ولكن… إن علّقنا قلوبنا بالله كما فعل أيوب،
لن يُرعبنا الهبوط، ولن يُسكرنا الارتفاع.
الرضا هو السرّ،
واليقين هو الحبل الذي نتمسك به
حين تتأرجح بنا الدنيا،
فنعيشها بطمأنينة… لا يُزعزعها حرمان، ولا يفسدها عطاء.
ريما فارس