
أ.د. هاني الضمور
في الزمن الذي تتكدس فيه موائد السياسة بالأوراق والمصالح والأصوات المرتعشة، تظل الكرامة أعز من أن تُدرج كبند في المفاوضات. الكرامة ليست تفصيلاً صغيرًا يُمكن تجاوزه، ولا شرطًا ثانويًا يُقيد حركة السياسيين، بل هي جوهر الوجود حين يصبح البقاء بحد ذاته موقفًا. في لحظات اشتداد الحصار، حين تكتب غزة رسائلها بدماء الأطفال، حين يهدم العدو البيوت على رؤوس ساكنيها في جنح الليل وتخرج المدينة من تحت الردم شامخة، تُدرك أن الكرامة ليست ترفًا شعبيًا، بل هي الاستراتيجية الوحيدة المتاحة في وجه قوى تتقن لغة التهديد والتطويق والهيمنة.
من لا يتحمل شروط الكرامة لا يجب أن يفاوض، لأنه ببساطة لا يستطيع تمثيل من لا يقبل أن يُذل. فمن يقف أمام العدو دون يقين راسخ بأنه لا يمكنه التنازل عن حقه في الحياة الحرة، يفتح الطريق للتفريط تحت شعارات مضللة كالمرونة والبراغماتية والحكمة السياسية. غزة ليست بندًا يُطرح على طاولة الحوارات الإقليمية، ولا ملفًا إنسانيًا يُبحث بين العواصم، بل هي الحقيقة التي تفضح الجميع: مَن لا يصمد، لا يستحق أن يتكلم. مَن يخاف من ثقل الكرامة، عليه أن يصمت، لأن الكلمات التي لا تُغلف بالعزة، تذوب في لغة الخنوع.
الكرامة ليست فكرة مجردة ولا شعارًا شعبويًا. إنها مشروع متكامل، سياسي وميداني وأخلاقي، لا يقبل الاختزال ولا المساومة. من يدخل التفاوض حاملاً في يده ميزان الربح والخسارة، ولا يحمل في قلبه نارًا على كل مشهد قصف وكل مشيع جنازة، لن يصنع سلامًا، بل صفقة. ومن يفاوض العدو وهو يحسب عدد ما سيكسبه من الامتيازات مقابل ما سيتنازل عنه من المبادئ، سيخرج خاسرًا حتى وإن ظن أنه انتصر. فالتاريخ لا يقيس السياسة بنتائجها المباشرة فقط، بل بمقدار الثمن الأخلاقي الذي دُفع مقابلها.
غزة، بهذا المعنى، لا تعقّد الحل، بل ترفعه إلى مستواه الحقيقي. هي الميزان، ومن لا يستطيع أن يتوازن فيها سيسقط أمام اختبار الشعوب. كم مرة قالوا إن غزة ترفض التسويات؟ كم مرة اتهموها بأنها تُعطل “الحلول السياسية”؟ لكنهم لم يقولوا إن كل ما عُرض عليها لم يكن حلًا بل تنازلاً. غزة تعرف أنها لا تملك ترف الاختيار بين السيئ والأسوأ، لكنها اختارت الأصعب والأشرف. اختارت أن تحيا تحت القصف، لا تحت الإملاء. أن تُضحي ولا تُبتز. أن تصرخ ولا تُهادن.
ليست الواقعية في أن تقبل شروط العدو وتخضع لها تحت مسمى “الضرورات السياسية”، بل في أن تصنع واقعًا جديدًا بدمك وصمودك وإيمانك بأنك على حق. غزة فعلت ذلك مرارًا، وأسقطت مفاهيم كانت تبدو راسخة: أسقطت وهم “الردع”، وكسرت صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وزرعت في الوعي الجمعي أن المقاومة ليست خيارًا، بل ضرورة، وأن الكرامة ليست عبئًا على السياسة بل شرطها الأول.
المفاوضات ليست عارًا، ولكن العار كل العار أن تدخلها خالي الوفاض من المبادئ. السياسة ليست خيانة، ولكن الخيانة أن تُزيف الحق وتبيع الوجع بثمن بخس في سوق التنازلات. من لا يستطيع أن يدخل غرفة التفاوض حاملاً معه ذاكرة المجازر، وصورة الأطفال تحت الركام، وأسماء الشهداء، وجراح الأسرى، وهمسات الأرامل، ودموع من قضوا على الحواجز، فليجلس في بيته، لأن تمثيل الشعوب التي تموت من أجل حريتها ليس امتيازًا وظيفيًا، بل تكليفًا أخلاقيًا لا يُمنح إلا لمن يشبهها.
في النهاية، تبقى غزة هي الامتحان. هي المنبر العالي الذي تتهشم عليه كل الأقنعة. من يقف معها، يفهم السياسة بمعناها الأعمق: حماية الكرامة لا بيعها. ومن يفاوض نيابة عنها ولا يحتمل شروط عزتها، فوجوده خطر أكبر من العدو نفسه. لأن العدو واضح، أما من ينكسر من الداخل، فإنه يُسهم في صناعة هزيمة مركبة: هزيمة السلاح وهزيمة الروح. وغزة، كما علمتنا دائمًا، تقاتل بكلتا الجبهتين، وتنتصر لأنها لا تقبل بأنصاف المواقف ولا بأنصاف الرجال.