
كتب / د. محسن حنون العكيلي ||
في عالم السياسة المليء بالتناقضات، يطل علينا مشهد متكرر يكشف عن ازدواجية المعايير عند بعض الساسة العرب، حيث يتحول المبدأ إلى أداة انتقائية، ويُستبدل ميزان الحق بميزان الخوف والمصالح الضيقة.
حين جاء المبعوث الأمريكي إلى لبنان، لم يتحدث أحد عن السيادة الوطنية، ولم يجرؤ أحد على القول إن ملف سلاح حزب الله شأن داخلي لا يحق لأمريكا أو الكيان الصهيوني التدخل فيه.
لم نسمع حينها عبارات “عدم التدخل بالشؤون الداخلية”، ولم نشهد وقفات عز وكرامة. بل على العكس، هرعت الحكومة اللبنانية في سباق مع الزمن لعقد اجتماع وزاري، تتسابق أطرافها على إظهار الطاعة والانصياع، وكأن قرار تسليم سلاح المقاومة أو حصره أمر يُتخذ على إيقاع الأوامر الأمريكية، لا على أساس مصلحة لبنان وأمنه القومي.
لكن، وبمجرد أن وجّهت الجمهورية الإسلامية الإيرانية نصيحة – وليس أمراً – إلى لبنان، مفادها أن تسليم سلاح حزب الله في ظل استمرار المعركة مع إسرائيل وخروقاتها اليومية للجنوب اللبناني أمر غير صائب، ارتفعت الأصوات المنددة، وتعالت التصريحات من وزارة الخارجية والحكومة اللبنانية، محذرة إيران من “التدخل في الشأن الداخلي”! وكأن النصيحة من حليف صادق تهديد، بينما الأمر الصادر من واشنطن “توجيه مشروع”!
هذا المشهد ليس بعيداً عن العراق. فبمجرد أن تسربت إشارات او بعض التصريحات بأن أمريكا لا ترغب بقانون الحشد الشعبي وتسعى لحله، تغيّر خطاب بعض الساسة العراقيين الذين كانوا بالأمس يميزون بين الحشد الشعبي والفصائل على حد تعبيرهم، وان الحشد وُلد بفتوى المرجعية الدينية، وأنه مؤسسة أمنية رسمية تابعة للقائد العام للقوات المسلحة.
فجأة، صار الحشد الشعبي عندهم مجرد “فصائل مسلحة”، وكأنهم محوا بجرّة لسان تضحياته ودماء شهدائه، ونسوا أو تناسوا أنه كان سداً منيعاً أمام أخطر مشروع إرهابي عرفه العراق والمنطقة.
المؤلم في هذه الازدواجية أن الخوف والرهبة من أمريكا وإسرائيل جعلت هؤلاء الساسة يلوذون بالصمت أو يتسابقون في تنفيذ ما يطلب منهم، بل أحياناً يكفي مجرد التلميح من واشنطن ليبدأوا بالتهيؤ للطاعة العمياء، بينما لا يترددون في رفع أصواتهم على الحلفاء والأصدقاء الذين قدّموا النصيحة والمساندة.
إنها مشكلة الجبن السياسي، حيث تتغلب المصالح الشخصية على المبادئ، ويتحول مفهوم السيادة إلى شعار يُرفع فقط أمام من لا يخيفهم، بينما يُسقط أمام من يملكون أدوات الضغط والتهديد. إنها الازدواجية في أبهى صورها: حدة في مواجهة الصديق، وخنوع في حضرة العدو.
ويبقى السؤال: هل يمكن لأمة يقودها هذا النمط من الساسة أن تحافظ على كرامتها وسيادتها؟ أم أن الخضوع المتكرر سيجعلها تفقد كل ما تبقى من استقلالية وقرار حر؟