
قال الله تعالى:
﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188]
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه"
في زمنٍ تُرفع فيه شعارات الإنسانية، ويُزخرف فيه الحديث عن أخلاقيات المهن، يُصاب الإنسان بالدهشة عندما يرى أن المريض ـ هذا الإنسان الضعيف الباحث عن عافية ـ قد أصبح سلعة تُستنزف من لحظة دخوله إلى العيادة حتى يخرج منها منهوكًا: جسديًّا، ونفسيًّا، وماديًّا.
حديثنا اليوم ليس عن الأطباء جميعهم، بل عن ظاهرة تفشت بين عدد كبير ممن امتهنوا الطب والصيدلة لا كرسالة، بل كتجارة. من المؤسف أن مهنة يفترض بها أن تكون الأقرب إلى الرحمة، باتت لدى بعضهم منصة للربح السريع، ولو على حساب ألم الآخرين.
قصة حقيقية:
يقول أحد مندوبي الأدوية:
"عرضت على أحد الأطباء دواءً بسعر عشرة آلاف دينار. وافق الطبيب بشرط ألا يُباع إلا في صيدليته الخاصة، وأن يشتري الكمية كاملة. وبعد الموافقة، تفاجأت بأنه رفع سعر الدواء إلى أربعين ألفًا! المريض لا حيلة له، يشتري مرغَمًا لأنه يتألم، ولأن وصفة الطبيب لا تُصرف إلا من تلك الصيدلية."
وهنا نسأل:
أين الضمير؟ وأين الرحمة؟ وهل أصبحت العلاقة بين الطبيب والمريض علاقة تاجر وزبون لا علاقة راحم ومحتاج؟
ظواهر خطيرة تتكرر:
هذه القصة لم تكن استثناء، بل نموذجًا لواقع مكرر. وهذه بعض الممارسات التي أصبحت شبه "نظام عمل" في بعض العيادات والمراكز الطبية:
كتابة وصفات طبية بشفرات لا يفهمها إلا الصيدلي المتفق مع الطبيب.
توجيه المرضى إلى مختبرات محددة بأسعار مرتفعة مقابل نسب "مقطوعة" للطبيب.
إرسال المرضى لإجراء فحوصات أو سونار في مراكز بعينها، ضمن اتفاقيات مشبوهة.
إجبار المريض على الخضوع لفحوصات باهظة (مثل الناظور) قبل الفحص السريري، فقط لأن الجهاز موجود داخل عيادة الطبيب.
مستشفيات خاصة تحوّلت إلى ما يشبه المزارع التجارية، كل زاوية فيها تهدف لتحصيل أكبر قدر من المال من المريض المغلوب.
وإذا فسد الراعي، فمن يُصلح؟
في ظل غياب الرقابة الفعلية، تتفاقم المشكلة:
وزارة الصحة في كثير من الأحيان غائبة، أو تعاني من تضارب المصالح.
نقابة الأطباء يقودها أطباء، بعضهم يمتلك عيادات خاصة!
نقابة الصيادلة أصحاب صيدليات، وقد تكون هناك مصالح متقاطعة.
فمن يراقب من؟
ومن يُصلح إذا كان الفساد قد تسلل إلى جهات الرقابة نفسها؟
يُقال للمريض: اذهب إلى المستشفى الحكومي!
لكن حين يصل، يجد السونار معطلًا، والأجهزة غير متوفرة، والكوادر غير مؤهلة أو متعبة أو محبطة.
بعض التحاليل تُجرى في مختبرات يديرها خريجون جدد بلا إشراف حقيقي.
حتى بعض الأطباء في المستشفيات الحكومية، باتوا لا ينظرون إلى المريض إلا بفتور، ويكتبون نصف العلاج، على أن يُستكمل من صيدليات مرتبطة باتفاقات جانبية.
المصيبة الكبرى أن هذه الظواهر تمرّ بلا مساءلة، بلا خطب جمعة تفضح، بلا تحقيقات إعلامية كاشفة، بلا مواقف حقيقية من المثقفين وأصحاب الأقلام.
بينما تُهدر كرامة المريض، ويُسلَب ماله، ويُستهلك أمله.
لسنا ضد الأطباء الشرفاء
نعم، لا يمكن إنكار وجود أطباء شرفاء، يحملون راية الإنسانية، ويعاملون المريض كإنسان لا كمصدر دخل.
لكن للأسف، هؤلاء أصبحوا الأقلية… أقلية مضيئة في ظلام الاستغلال، ونسبة تكاد تكون "واحد في الألف".
إذا لم تتحرك وزارة الصحة، وإذا لم تستفق النقابات، وإذا لم يتكلم الإعلام الحر، وإذا لم يتحدث الخطباء في المنابر، وإذا لم ينتفض الضمير العام…
فمن ينقذ المريض؟ ومن يعيد للطب إنسانيته؟
لقد قال الله تعالى:
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران: 104]
فليكن هذا المقال، وهذه الكلمة، بداية دعوة صادقة لإصلاح ما فسد، ولإحياء ما مات من الضمير .