الأربعاء 24 سبتمبر 2025

  • القسم الرئيسي : مقالات .
        • القسم الفرعي : المقالات .
              • الموضوع : حين يلتقي شي وبوتين وكيم: هل يبدأ عصر بديل للنظام العالمي؟ .

حين يلتقي شي وبوتين وكيم: هل يبدأ عصر بديل للنظام العالمي؟

 

 

 

 

 

 د. حنان الهاجري 

في مشهد لم يكن مألوفًا قبل عقد واحد فقط، وقف ثلاثة من أكثر الزعماء إثارة للجدل عالميًا — شي جين بينغ، فلاديمير بوتين، وكيم جونغ أون — جنبًا إلى جنب في قلب بكين، في عرض عسكري ضخم حمل رسائل تتجاوز حدود الذكرى التاريخية لانتصار الصين في الحرب العالمية الثانية. لم يكن الاستعراض مجرّد عرض للقوة العسكرية أو استحضار لرمزية الماضي، بل إعلانًا صريحًا عن تقارب استراتيجي متسارع بين قوى ترى نفسها في مواجهة مباشرة مع النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها.

 اللقاء الثلاثي، بما يحمله من رمزية سياسية ورسائل عسكرية، يطرح تساؤلات جوهرية: هل نحن أمام ولادة محور متماسك يسعى لإعادة صياغة موازين القوة العالمية؟ وهل يشكل هذا التلاقي بداية عصر بديل للنظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة؟
يُعتبر العرض العسكري الصيني الأخير في ساحة تيانانمن أكثر من مجرد استعراض للقوة أو احتفاء بذكرى النصر؛ فهو بمثابة رسالة مركّبة موجهة للعالم بأسره، تعكس عمق التحولات في ميزان القوى الدولية، وتكشف عن إرادة جماعية لتشكيل بديل للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ عقود. إن مشهد اصطفاف شي جين بينغ إلى جانب فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في لحظة رمزية واحدة، يضع المجتمع الدولي أمام سؤال استراتيجي محوري: هل نحن بصدد ولادة محور جديد قادر على تقويض أسس النظام الأحادي، وبناء نظام تعددي متنازع يغيّر قواعد اللعبة الجيوسياسية؟


تكمن أهمية تحليل هذا الحدث بالنسبة للقادة والباحثين، خصوصًا في العالم العربي والأفريقي، في أنه لا يقتصر على ثلاث دول كبرى فحسب، بل يحمل في طياته انعكاسات مباشرة على توازنات إقليمية ودولية قد تعيد رسم خريطة التحالفات. ففهم الرسائل التي بثّها هذا العرض العسكري – سواء العسكرية منها، أو السياسية، أو الاستراتيجية – لا يُعدّ ترفًا فكريًا، بل ضرورة عملية لفهم مآلات العلاقات الدولية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ـ  أولًا: الرسائل العسكرية.
   لا يمكن قراءة العرض العسكري الصيني الأخير في ساحة تيانانمن على أنه مجرد استعراض احتفالي بذكرى النصر، بل هو رسالة مركّبة تعكس حجم التحولات في التوازنات العسكرية العالمية. فقد ركّزت بكين على إبراز قدراتها التسليحية المتقدمة، خصوصًا الصواريخ فرط الصوتية، كإشارة واضحة إلى انتقالها من قوة اقتصادية إلى فاعل استراتيجي قادر على تهديد التفوق العسكري الغربي.¹ وفي الوقت نفسه، فإن مشاركة بوتين وكيم إلى جانب شي تعني أن المعادلة العسكرية لم تعد محصورة في قوة صينية صاعدة، بل في محور ثلاثي قادر على فتح أكثر من جبهة في وجه الولايات المتحدة وحلفائها.² إن الرسالة الأساسية التي أرادت بكين تمريرها هي أن أي مواجهة مستقبلية لن تكون أحادية المسار، بل متعددة الاتجاهات، تشمل شبه الجزيرة الكورية، مضيق تايوان، وأوكرانيا في آن واحد.³
 ـ ثانيًا: الرسائل السياسية.
 لم يقتصر الاستعراض العسكري في بكين على رسائل القوة الصلبة، بل حمل في طياته إشارات سياسية عميقة تعكس التحولات في موازين الشرعية والهيمنة على الساحة الدولية. فالحدث تجاوز الطابع الاحتفالي ليصبح منصة لإبراز وحدة رمزية بين قوى تسعى لتحدي النظام العالمي القائم.
 من خلال مشهد جلوس شي وبوتين وكيم جنبًا إلى جنب، أرادت بكين أن تبعث برسالة واضحة مفادها أن العالم لم يعد حكراً على الولايات المتحدة وحلفائها. إن إعادة ربط ذكرى الانتصار على اليابان بمواجهة “الهيمنة الغربية” المعاصرة يُعيد إنتاج خطاب تاريخي يشرعن لتقارب هذه القوى الثلاث. 4 كما يخدم هذا التلاقي السياسي أجندات داخلية، إذ يُستخدم لتعزيز شرعية القادة أمام شعوبهم من خلال تقديم أنفسهم كحماة للسيادة الوطنية ضد الضغوط الخارجية. 5 الرسالة السياسية الأبرز هنا هي إعلان وجود محور بديل، وإن كان غير رسمي، يسعى لفرض رؤية مغايرة للنظام الدولي، حيث تُعتبر الديمقراطية الليبرالية نموذجًا مهيمنًا لم يعد مقبولًا من قبل هذه الأطراف. 6
ـ ثالثًا: الأبعاد الاستراتيجية.
 لا تقتصر أهمية الحدث على بعده العسكري أو السياسي، بل تتجاوز ذلك إلى الأبعاد الاستراتيجية طويلة الأمد، التي قد تحدد شكل التوازنات الدولية خلال العقود المقبلة.
 التحالف الثلاثي الظاهر في بكين يمكن اعتباره “تحالف ضرورة” أكثر منه تحالف مصالح ثابتة. فالصين تبحث عن تثبيت مكانتها كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة، بينما تسعى روسيا إلى كسر العزلة التي فرضتها العقوبات الغربية بسبب حرب أوكرانيا، في حين تحاول كوريا الشمالية تعزيز موقعها التفاوضي عبر الارتباط بمحور قوي.   غير أن هذا التلاقي، رغم طبيعته المرحلية، يعكس إرادة مشتركة لإعادة تشكيل التوازنات الدولية وفق صيغة متعددة الأقطاب.

وهنا يظهر بعد استراتيجي آخر: توظيف رمزية الانتصار على اليابان والحرب العالمية الثانية كإطار شرعي لتقويض سردية “النظام الليبرالي” الذي تقوده واشنطن منذ 1945 .
ـ رابعًا: التداعيات على النظام العالمي .
 إذا كان العرض العسكري قد مثّل استعراضًا للقوة وإعلانًا للوحدة السياسية، فإن تداعياته الحقيقية تكمن في ما قد يترتب عليه من إعادة تشكيل للنظام العالمي.
لا تكمن أهمية العرض العسكري الصيني فقط في الاستعراض الرمزي للقوة أو إظهار وحدة سياسية بين بكين وموسكو وبيونغ يانغ، بل تتعداه إلى كونه مؤشرًا على تحولات بنيوية عميقة في النظام الدولي. أكثر ما يثير الانتباه هنا هو انعكاس هذا الحدث على النظام الأمريكي الذي قاد العالم منذ نهاية الحرب الباردة، حيث يجد نفسه اليوم أمام تحدٍ غير مسبوق من محور شرقي يسعى لإعادة صياغة قواعد اللعبة.
 منذ تسعينيات القرن الماضي، استطاعت الولايات المتحدة فرض هيمنة شاملة عبر مؤسساتها الدولية (الأمم المتحدة، البنك الدولي، صندوق النقد)، وتحالفاتها الأمنية (الناتو، التحالفات الآسيوية)، وهيمنتها التكنولوجية والعسكرية. غير أن مشهد تيانانمن جاء ليعلن أن هذه الأحادية لم تعد مقبولة أو ممكنة. الصين وروسيا وكوريا الشمالية، رغم اختلاف دوافعها، تبعث برسالة موحدة: أمريكا لم تعد اللاعب الأوحد في صياغة النظام العالمي.
إنّ التحدي الذي يفرضه العرض العسكري الصيني وما حمله من رمزية ثلاثية (بكين–موسكو–بيونغ يانغ) لا يمكن اختزاله في بعد واحد، بل هو تحدٍ مركّب ومتعدد الأبعاد يمسّ مختلف ركائز الهيمنة الأمريكية. فمنذ نهاية الحرب الباردة، بَنَت الولايات المتحدة نفوذها على أربعة أعمدة مترابطة: التفوق العسكري، القيادة السياسية، الريادة الاقتصادية، والشرعية الأيديولوجية للنموذج الليبرالي. غير أنّ المشهد في ساحة تيانانمن كشف عن بداية تآكل هذه الأعمدة في وقت واحد، الأمر الذي يضع واشنطن أمام امتحان استراتيجي غير مسبوق منذ عقود.
وبالتالي، يمكن القول إنّ هذا التحدي يتجسد في جملة من المستويات المتداخلة، عسكرية وسياسية واقتصادية وأيديولوجية، يفرض كل منها على الولايات المتحدة إعادة تقييم موقعها ودورها في النظام الدولي، كما يدفعها إلى التفكير في استراتيجيات بديلة للحفاظ على مكانتها في عالم يتجه بسرعة نحو تعددية قطبية متنازعة.
هذا التحدي يتجسد  في جملة من  المستويات:
    التحدي العسكري:  أبرزت الصين صواريخ فرط صوتية وأسلحة متقدمة تُعتبر رسالة مباشرة إلى واشنطن بأن الردع الأمريكي لم يعد مطلقًا.¹ تضاف إلى ذلك القدرات الروسية النووية التقليدية والابتكارات الصاروخية الكورية الشمالية، ما يعني أن قدرة الولايات المتحدة على فرض تفوق عسكري أحادي تتآكل تدريجيًا. إن النظام الأمريكي الذي كان يقوم على “عسكرة الردع” يجد نفسه أمام تحالف قادر على إضعاف مصداقيته الاستراتيجية.
  التحدي السياسي:  إن مشهد اصطفاف شي وبوتين وكيم يرمز إلى نشوء “كتلة رفض” صريحة ضد قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي.  بكين تقدّم نفسها كقوة مسؤولة تُعلي من مبدأ السيادة وعدم التدخل، في مواجهة ما تصفه بـ “التدخلات الأمريكية” في شؤون الدول (تايوان، هونغ كونغ، أوكرانيا، الشرق الأوسط).  هذه الرمزية السياسية تؤسس لشرعية بديلة قد تستقطب دولًا في الجنوب العالمي تشعر بالإقصاء من النظام الليبرالي.
التحدي الاقتصادي : رغم استمرار تفوق الاقتصاد الأمريكي، إلا أن العرض العسكري ترافق مع رسائل حول صعود الصين كقوة اقتصادية–تكنولوجية قادرة على تقديم بديل للنظام المالي العالمي. مبادرات مثل “الحزام والطريق”، وتوجه موسكو نحو آسيا، والتقارب الاقتصادي مع بيونغ يانغ، تمثل محاولات لبناء فضاء اقتصادي موازٍ يقلل من هيمنة الدولار الأمريكي.
التحدي الأيديولوجي: أخطر ما يواجه النظام الأمريكي هو تآكل شرعيته الأيديولوجية. الديمقراطية الليبرالية، التي اعتُبرت “نهاية التاريخ” في تسعينيات القرن الماضي، أصبحت موضع تشكيك في ظل الأزمات الداخلية الأمريكية (الانقسام الحزبي، أزمات الشرعية، تراجع الثقة بالمؤسسات).  في المقابل، يعرض المحور الشرقي نموذجًا بديلًا يقوم على “السيادة المطلقة” و”التنمية دون شروط سياسية”، وهو خطاب يجد صداه في العديد من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
التحدي الاستراتيجي: العرض العسكري يكرّس انتقال النظام العالمي من هيمنة أمريكية شبه مطلقة إلى تعددية قطبية مضطربة، حيث تسعى واشنطن لإعادة بناء تحالفاتها (اليابان، كوريا الجنوبية، أوروبا) في مواجهة محور شرقي صاعد.
لكن التداعيات الأخطر تكمن في البعد النفسي والسياسي للحدث: فهو يوجّه رسالة إلى الرأي العام العالمي مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض إرادتها منفردة، وأن هناك بدائل يمكن أن توفر مظلة سياسية وعسكرية لدول تشعر بالضغط من الهيمنة الغربية.

 وهذا ما قد يفتح الباب أمام دول من العالم النامي (أفريقيا، أمريكا اللاتينية، جنوب شرق آسيا) لإعادة التموضع استراتيجيًا، والاقتراب أكثر من محور بكين–موسكو–بيونغ يانغ، في مسعى للحصول على هوامش مناورة أوسع في مواجهة واشنطن.
بذلك، يمكن القول إن النظام الأمريكي يواجه اليوم لحظة حرجة شبيهة بلحظة ما بعد حرب فيتنام أو أحداث 11 سبتمبر، لكن هذه المرة في سياق دولي أكثر تعقيدًا. وإذا فشلت الولايات المتحدة في التكيّف مع التعددية الناشئة، فإن عرض تيانانمن قد يُسجَّل تاريخيًا كلحظة رمزية على بداية أفول الهيمنة الأمريكية التقليدية.
خامسا التداعيات المباشرة على النظام الأمريكي.
أعاد العرض العسكري الصيني الضخم في ساحة تيانانمن إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: إلى أي مدى لا تزال الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على موقعها كقوة مهيمنة في النظام الدولي؟ المشهد الثلاثي الذي جمع شي جين بينغ وفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون لم يكن مجرد استعراض للقوة العسكرية، بل رسالة سياسية–استراتيجية تمس جوهر النظام الأمريكي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة. ولعل أهم تداعيات هذا الحدث تتجلى في التحديات المباشرة التي تواجه واشنطن، والتي قد ترسم ملامح النظام العالمي في العقود القادمة 7.
1-إعادة عسكرة الاستراتيجية الأمريكية.
ستجد واشنطن نفسها مضطرة لإعادة النظر في استراتيجيتها الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فاستعراض الصين لأسلحة متطورة، إلى جانب الدعم الروسي والكوري الشمالي، يشير إلى أن ميزان القوة العسكري لم يعد يميل لصالح الولايات المتحدة بشكل مطلق. هذا الواقع قد يدفعها إلى تعزيز وجودها العسكري البحري والجوي في المحيطين الهادئ والهندي، وإلى تطوير برامج تسليحية جديدة لمجاراة التفوق النوعي الذي أظهرته بكين. غير أن مثل هذه الخطوات قد تفتح الباب واسعًا أمام سباق تسلح جديد، بما يفاقم من احتمالات المواجهة ويزيد من هشاشة الاستقرار الدولي.
2-تعميق التحالفات الغربية.
في مواجهة التكتل الشرقي الصاعد، من المرجح أن تعمد الولايات المتحدة إلى إعادة تفعيل شبكاتها التحالفية التقليدية وتعميقها. أوروبا، اليابان، وكوريا الجنوبية ستشكّل ركائز أساسية في الاستراتيجية الأمريكية المقبلة، ليس فقط لاحتواء النفوذ الصيني–الروسي، بل أيضًا لعزل كوريا الشمالية وإبقائها في موقع الدولة “المارقة”. قد يُترجم ذلك في صورة اتفاقيات دفاعية جديدة، زيادة في الإنفاق العسكري من جانب الحلفاء، أو حتى إنشاء تحالفات مصغّرة متخصصة في الردع التكنولوجي والعسكري. وبهذا، يتحول الحدث في بكين إلى ذريعة لإحياء الناتو وتعزيز تحالفات واشنطن الآسيوية ضمن رؤية شاملة لاحتواء المحور الشرقي.
3-أزمة شرعية داخلية وخارجية.
لكن التحدي لا يقتصر على البعد الخارجي. الولايات المتحدة تواجه أزمة شرعية مزدوجة: داخليًا بسبب الانقسام السياسي الحاد، تراجع الثقة بالمؤسسات، وتنامي النزعات الشعبوية؛ وخارجيًا نتيجة صعود بدائل جيوسياسية تقدم نفسها كنماذج أكثر احترامًا للسيادة الوطنية. هذا التشكيك المتزايد في جدوى وشرعية “النظام الأمريكي” قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في قدرة واشنطن على فرض أجندتها الدولية. فبينما تسعى الصين وروسيا إلى إظهار نفسيهما كمدافعين عن نظام عالمي أكثر “توازنًا”، تجد الولايات المتحدة نفسها في موقع دفاعي، تحاول إثبات أن نموذجها لا يزال الأكثر فاعلية في تحقيق الاستقرار والازدهار.
4-تحول النظام الدولي نحو التعددية القطبية.
الاستعراض العسكري في بكين لم يكن مجرد تذكير بقوة الصين الصاعدة، بل إعلان ضمني عن بداية مرحلة جديدة من التعددية القطبية. لم يعد العالم محكومًا بمعادلة “القطب الواحد” كما بعد 1991، بل يتجه نحو نظام دولي يتقاسم فيه عدة فاعلين النفوذ، وإن في إطار مضطرب وغير مستقر. هذه التعددية ليست نتاج توافق دولي، بل ثمرة صراع مفتوح بين قوى ترى في نفسها بدائل للهيمنة الأمريكية. ومن هنا تكمن خطورة المرحلة: فهي ليست تعددية “منظمة”، بل تعددية متنازعة قد تفضي إلى أزمات إقليمية ودولية متلاحقة.
قراءة استشرافية.
يمكن النظر إلى هذا العرض العسكري بوصفه “لحظة سيكولوجية” فاصلة في مسار القوة الأمريكية. على غرار هزيمة سايغون عام 1975 أو أحداث 11 سبتمبر 2001، يمثل المشهد الثلاثي في بكين نقطة انعطاف، لكن الفارق أنه لم يأت من خصم واحد، بل من تحالف ثلاثي يجمع قوة اقتصادية عملاقة (الصين)، قوة عسكرية نووية كبرى (روسيا)، وقوة إقليمية “متمردة” (كوريا الشمالية). هذا التلاقي يعكس بداية تشكل محور قد يعيد رسم ملامح النظام الدولي. وإذا لم تنجح الولايات المتحدة في التكيف عبر إصلاح تحالفاتها، تحديث نموذجها الاقتصادي، ومعالجة أزماتها الداخلية، فإن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين قد يُسجَّل باعتباره بداية أفول “العصر الأمريكي” وبزوغ مرحلة جديدة من التعددية القطبية المتنازعة، ربما أكثر خطورة من الحرب الباردة نفسها.

يُظهر العرض العسكري الصيني الأخير في ساحة تيانانمن أنّ العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة من التحوّلات البنيوية العميقة، حيث لم يعد بالإمكان اختزال القوة في بعدها العسكري فحسب، بل أصبحت رسائل الاستعراض محمّلة بدلالات سياسية واستراتيجية تهدف إلى إعادة صياغة النظام الدولي. لقد كان مشهد اصطفاف شي جين بينغ، فلاديمير بوتين، وكيم جونغ أون على منصة واحدة بمثابة إعلان صريح عن تقارب ثلاثي يسعى إلى تحدي الهيمنة الأمريكية وتقديم بديل مغاير للمنظومة الليبرالية التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب الباردة.
على الصعيد العسكري، حمل العرض رسالة واضحة بأن الصين لم تعد قوة اقتصادية صاعدة فحسب، بل قوة عسكرية قادرة على مجاراة – بل ومنافسة – القدرات الاستراتيجية الأمريكية. وقد تعزّزت هذه الرسالة بوجود روسيا وكوريا الشمالية، ما يعني أن أي مواجهة محتملة مع الولايات المتحدة لن تكون مع طرف منفرد، بل مع محور قادر على فتح أكثر من جبهة في آن واحد، من تايوان إلى أوكرانيا وشبه الجزيرة الكورية.
أما على المستوى السياسي، فقد شكّل الاستعراض منصة لإعادة إنتاج خطاب السيادة ومقاومة التدخلات الخارجية، وهو خطاب يجد صدى واسعًا في الجنوب العالمي الذي يزداد تململاً من “المعايير المزدوجة” للنظام الغربي. ومن خلال استدعاء رمزية النصر في الحرب العالمية الثانية، نجحت بكين في إضفاء شرعية تاريخية على مشروعها المعاصر، في وقت تبحث فيه موسكو عن مخرج من عزلتها الدولية، وتسعى بيونغ يانغ إلى تعزيز موقعها التفاوضي.
استراتيجيًا، يعكس هذا اللقاء الثلاثي إرادة واضحة لإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي نحو تعددية قطبية، حتى وإن كانت هذه التعددية متنازعة وغير مستقرة. الصين تطمح إلى كسر احتكار واشنطن للتفوق التكنولوجي والاقتصادي، روسيا تسعى إلى استعادة مكانتها كقوة عظمى في مواجهة الناتو، وكوريا الشمالية توظف التحالف كدرع سياسي يقيها الضغوط الأمريكية. هذه الديناميات، وإن بدت متباينة، فإنها تلتقي في هدف مشترك: تقويض الهيمنة الأمريكية التقليدية.
على مستوى النظام العالمي، تكمن التداعيات الأعمق في ما يواجهه “النظام الأمريكي” من أزمة شرعية داخلية وخارجية. داخليًا، تضعف الانقسامات الحزبية وتراجع الثقة بالمؤسسات من قدرة واشنطن على قيادة العالم بثقة. وخارجيًا، يجد الكثير من الدول في خطاب بكين وموسكو بديلاً أكثر احترامًا لمفهوم السيادة، وهو ما قد يشجع قوى إقليمية أخرى على إعادة التموضع بعيدًا عن المحور الغربي. ومع أن الولايات المتحدة ستسعى بلا شك إلى إعادة عسكرة استراتيجيتها وتعميق تحالفاتها الغربية والآسيوية، إلا أنّ هذه الاستجابات قد تزيد من حدة الاستقطاب العالمي وتفتح الباب أمام سباق تسلح جديد.
في ضوء ذلك، يمكن اعتبار العرض العسكري في تيانانمن لحظة “نفسية–سياسية” فارقة في التاريخ المعاصر، شبيهة بلحظات سايغون (1975) أو 11 سبتمبر (2001)، لكنها هذه المرة مرتبطة بصعود محور ثلاثي قادر على تهديد ركائز النظام الدولي القائم. وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من التكيّف مع هذه التحولات عبر تحديث نموذجها السياسي والاقتصادي وإصلاح أزماتها الداخلية، فإن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين قد يُسجَّل كبداية أفول “العصر الأمريكي”، وبروز تعددية قطبية متنازعة، تحمل في طياتها فرصًا لإعادة التوازن، لكنها أيضًا تنذر بفوضى وصراعات قد تجعلها أكثر خطورة من الحرب الباردة نفسها.
الخاتمة
يمكن القول إن سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية تجاه الشرق الأوسط جاءت امتدادًا لشعار “أمريكا أولًا”، لكن في سياق دولي أشد تعقيدًا. فقد ارتكزت هذه السياسة على تعظيم المصالح الاقتصادية والأمنية المباشرة، عبر صفقات السلاح والعقوبات الاقتصادية، وفي الوقت ذاته تقليص الانخراط العسكري المباشر. وبذلك، مثّلت مقاربة ترامب انتقالًا من التدخلية التقليدية إلى إدارة النفوذ من مسافة محسوبة، ما جعلها أكثر براغماتية وأقل التزامًا بالقيم أو المبادئ التي طالما شكّلت مكوّنًا للخطاب الأميركي الخارجي .
غير أنّ هذه الأولويات تركت تداعيات عميقة على البنية الإقليمية والدولية. فتعزيز التحالف مع إسرائيل وتوسيع التطبيع العربي–الإسرائيلي أدّيا إلى إعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط، لكن في المقابل زادا من تهميش القضية الفلسطينية وتصاعد التوتر مع إيران. كما أسهم الانكفاء العسكري النسبي للولايات المتحدة في خلق فراغ استراتيجي استغلته قوى منافسة مثل روسيا والصين لتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في المنطقة، وهو ما يهدد بتقليص الهيمنة الأميركية التقليدية .
استشرافًا للمستقبل، تبدو المنطقة أمام مسارات مفتوحة تتراوح بين التصعيد العسكري مع إيران، وتوسيع محور التطبيع العربي–الإسرائيلي، وانخراط محدود قائم على الردع عن بُعد.

إلا أنّ القاسم المشترك بين هذه السيناريوهات هو استمرار اعتماد واشنطن على البراغماتية الصارمة وتفضيل الأدوات الاقتصادية والسياسية على التدخلات العسكرية المكلفة. ومن هنا، فإن سياسة ترامب مرشحة لإعادة هندسة المشهد الإقليمي بما يخدم المصالح الأميركية الآنية، لكنها في الوقت ذاته قد تزرع بذور أزمات أوسع تهدد الاستقرار على المدى الطويل .
في نهاية المطاف، يمكن القول إن العرض العسكري الصيني لم يكن مجرد استعراض رمزي للقوة، بل محطة مفصلية تكشف عن إرادة جماعية – صينية وروسية وكورية شمالية – لتقويض أسس النظام الأحادي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. غير أنّ السؤال الأعمق: هل نحن بالفعل بصدد ولادة محور جديد قادر على صياغة نظام تعددي بديل؟
الإجابة تتطلب التمييز بين القدرة على التحدي و القدرة على البناء. فمن جهة، أظهر هذا المحور الثلاثي أنه قادر على إرباك الاستراتيجية الأمريكية وفتح جبهات متعددة تضعف هيمنة واشنطن التقليدية، ما يؤشر إلى بداية تحوّل جيوسياسي لا يمكن إنكاره. ومن جهة أخرى، يبقى بناء نظام بديل مستقر أمرًا محفوفًا بالتحديات، نظرًا لاختلاف أولويات أطراف هذا المحور، وعدم امتلاكهم حتى الآن مؤسسات أو رؤية متكاملة قادرة على منافسة البنية الليبرالية الدولية التي أسستها الولايات المتحدة وحلفاؤها.
وعليه، فإننا أقرب اليوم إلى مرحلة انتقالية نحو تعددية قطبية متنازعة، لا إلى نظام عالمي جديد مكتمل الملامح. فالمحور الشرقي قادر على تقويض الهيمنة الأمريكية، لكنه لم ينجح بعد في تقديم نموذج بديل جامع. هذا الوضع يعني أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين سيشهد صراعًا مفتوحًا على قواعد النظام الدولي، حيث ستتأرجح موازين القوة بين محاولات واشنطن لترميم هيمنتها، ومساعي بكين وموسكو وبيونغ يانغ لفرض بديل يعكس مصالحها الاستراتيجية.

 في مشهد لم يكن مألوفًا قبل عقد واحد فقط، وقف ثلاثة من أكثر الزعماء إثارة للجدل عالميًا — شي جين بينغ، فلاديمير بوتين، وكيم جونغ أون — جنبًا إلى جنب في قلب بكين، في عرض عسكري ضخم حمل رسائل تتجاوز حدود الذكرى التاريخية لانتصار الصين في الحرب العالمية الثانية. لم يكن الاستعراض مجرّد عرض للقوة العسكرية أو استحضار لرمزية الماضي، بل إعلانًا صريحًا عن تقارب استراتيجي متسارع بين قوى ترى نفسها في مواجهة مباشرة مع النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها.
 اللقاء الثلاثي، بما يحمله من رمزية سياسية ورسائل عسكرية، يطرح تساؤلات جوهرية: هل نحن أمام ولادة محور متماسك يسعى لإعادة صياغة موازين القوة العالمية؟ وهل يشكل هذا التلاقي بداية عصر بديل للنظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة؟
يُعتبر العرض العسكري الصيني الأخير في ساحة تيانانمن أكثر من مجرد استعراض للقوة أو احتفاء بذكرى النصر؛ فهو بمثابة رسالة مركّبة موجهة للعالم بأسره، تعكس عمق التحولات في ميزان القوى الدولية، وتكشف عن إرادة جماعية لتشكيل بديل للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ عقود. إن مشهد اصطفاف شي جين بينغ إلى جانب فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في لحظة رمزية واحدة، يضع المجتمع الدولي أمام سؤال استراتيجي محوري: هل نحن بصدد ولادة محور جديد قادر على تقويض أسس النظام الأحادي، وبناء نظام تعددي متنازع يغيّر قواعد اللعبة الجيوسياسية؟


تكمن أهمية تحليل هذا الحدث بالنسبة للقادة والباحثين، خصوصًا في العالم العربي والأفريقي، في أنه لا يقتصر على ثلاث دول كبرى فحسب، بل يحمل في طياته انعكاسات مباشرة على توازنات إقليمية ودولية قد تعيد رسم خريطة التحالفات. ففهم الرسائل التي بثّها هذا العرض العسكري – سواء العسكرية منها، أو السياسية، أو الاستراتيجية – لا يُعدّ ترفًا فكريًا، بل ضرورة عملية لفهم مآلات العلاقات الدولية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ـ  أولًا: الرسائل العسكرية.
   لا يمكن قراءة العرض العسكري الصيني الأخير في ساحة تيانانمن على أنه مجرد استعراض احتفالي بذكرى النصر، بل هو رسالة مركّبة تعكس حجم التحولات في التوازنات العسكرية العالمية. فقد ركّزت بكين على إبراز قدراتها التسليحية المتقدمة، خصوصًا الصواريخ فرط الصوتية، كإشارة واضحة إلى انتقالها من قوة اقتصادية إلى فاعل استراتيجي قادر على تهديد التفوق العسكري الغربي.¹ وفي الوقت نفسه، فإن مشاركة بوتين وكيم إلى جانب شي تعني أن المعادلة العسكرية لم تعد محصورة في قوة صينية صاعدة، بل في محور ثلاثي قادر على فتح أكثر من جبهة في وجه الولايات المتحدة وحلفائها.² إن الرسالة الأساسية التي أرادت بكين تمريرها هي أن أي مواجهة مستقبلية لن تكون أحادية المسار، بل متعددة الاتجاهات، تشمل شبه الجزيرة الكورية، مضيق تايوان، وأوكرانيا في آن واحد.³
 ـ ثانيًا: الرسائل السياسية.

 لم يقتصر الاستعراض العسكري في بكين على رسائل القوة الصلبة، بل حمل في طياته إشارات سياسية عميقة تعكس التحولات في موازين الشرعية والهيمنة على الساحة الدولية. فالحدث تجاوز الطابع الاحتفالي ليصبح منصة لإبراز وحدة رمزية بين قوى تسعى لتحدي النظام العالمي القائم.
 من خلال مشهد جلوس شي وبوتين وكيم جنبًا إلى جنب، أرادت بكين أن تبعث برسالة واضحة مفادها أن العالم لم يعد حكراً على الولايات المتحدة وحلفائها. إن إعادة ربط ذكرى الانتصار على اليابان بمواجهة “الهيمنة الغربية” المعاصرة يُعيد إنتاج خطاب تاريخي يشرعن لتقارب هذه القوى الثلاث. 4 كما يخدم هذا التلاقي السياسي أجندات داخلية، إذ يُستخدم لتعزيز شرعية القادة أمام شعوبهم من خلال تقديم أنفسهم كحماة للسيادة الوطنية ضد الضغوط الخارجية. 5 الرسالة السياسية الأبرز هنا هي إعلان وجود محور بديل، وإن كان غير رسمي، يسعى لفرض رؤية مغايرة للنظام الدولي، حيث تُعتبر الديمقراطية الليبرالية نموذجًا مهيمنًا لم يعد مقبولًا من قبل هذه الأطراف. 6
ـ ثالثًا: الأبعاد الاستراتيجية.
 لا تقتصر أهمية الحدث على بعده العسكري أو السياسي، بل تتجاوز ذلك إلى الأبعاد الاستراتيجية طويلة الأمد، التي قد تحدد شكل التوازنات الدولية خلال العقود المقبلة.
 التحالف الثلاثي الظاهر في بكين يمكن اعتباره “تحالف ضرورة” أكثر منه تحالف مصالح ثابتة. فالصين تبحث عن تثبيت مكانتها كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة، بينما تسعى روسيا إلى كسر العزلة التي فرضتها العقوبات الغربية بسبب حرب أوكرانيا، في حين تحاول كوريا الشمالية تعزيز موقعها التفاوضي عبر الارتباط بمحور قوي.   غير أن هذا التلاقي، رغم طبيعته المرحلية، يعكس إرادة مشتركة لإعادة تشكيل التوازنات الدولية وفق صيغة متعددة الأقطاب. وهنا يظهر بعد استراتيجي آخر: توظيف رمزية الانتصار على اليابان والحرب العالمية الثانية كإطار شرعي لتقويض سردية “النظام الليبرالي” الذي تقوده واشنطن منذ 1945 .
ـ رابعًا: التداعيات على النظام العالمي .
 إذا كان العرض العسكري قد مثّل استعراضًا للقوة وإعلانًا للوحدة السياسية، فإن تداعياته الحقيقية تكمن في ما قد يترتب عليه من إعادة تشكيل للنظام العالمي.
لا تكمن أهمية العرض العسكري الصيني فقط في الاستعراض الرمزي للقوة أو إظهار وحدة سياسية بين بكين وموسكو وبيونغ يانغ، بل تتعداه إلى كونه مؤشرًا على تحولات بنيوية عميقة في النظام الدولي. أكثر ما يثير الانتباه هنا هو انعكاس هذا الحدث على النظام الأمريكي الذي قاد العالم منذ نهاية الحرب الباردة، حيث يجد نفسه اليوم أمام تحدٍ غير مسبوق من محور شرقي يسعى لإعادة صياغة قواعد اللعبة.
 منذ تسعينيات القرن الماضي، استطاعت الولايات المتحدة فرض هيمنة شاملة عبر مؤسساتها الدولية (الأمم المتحدة، البنك الدولي، صندوق النقد)، وتحالفاتها الأمنية (الناتو، التحالفات الآسيوية)، وهيمنتها التكنولوجية والعسكرية. غير أن مشهد تيانانمن جاء ليعلن أن هذه الأحادية لم تعد مقبولة أو ممكنة. الصين وروسيا وكوريا الشمالية، رغم اختلاف دوافعها، تبعث برسالة موحدة: أمريكا لم تعد اللاعب الأوحد في صياغة النظام العالمي.
إنّ التحدي الذي يفرضه العرض العسكري الصيني وما حمله من رمزية ثلاثية (بكين–موسكو–بيونغ يانغ) لا يمكن اختزاله في بعد واحد، بل هو تحدٍ مركّب ومتعدد الأبعاد يمسّ مختلف ركائز الهيمنة الأمريكية. فمنذ نهاية الحرب الباردة، بَنَت الولايات المتحدة نفوذها على أربعة أعمدة مترابطة: التفوق العسكري، القيادة السياسية، الريادة الاقتصادية، والشرعية الأيديولوجية للنموذج الليبرالي. غير أنّ المشهد في ساحة تيانانمن كشف عن بداية تآكل هذه الأعمدة في وقت واحد، الأمر الذي يضع واشنطن أمام امتحان استراتيجي غير مسبوق منذ عقود.
وبالتالي، يمكن القول إنّ هذا التحدي يتجسد في جملة من المستويات المتداخلة، عسكرية وسياسية واقتصادية وأيديولوجية، يفرض كل منها على الولايات المتحدة إعادة تقييم موقعها ودورها في النظام الدولي، كما يدفعها إلى التفكير في استراتيجيات بديلة للحفاظ على مكانتها في عالم يتجه بسرعة نحو تعددية قطبية متنازعة.
هذا التحدي يتجسد  في جملة من  المستويات:
    التحدي العسكري:  أبرزت الصين صواريخ فرط صوتية وأسلحة متقدمة تُعتبر رسالة مباشرة إلى واشنطن بأن الردع الأمريكي لم يعد مطلقًا.¹ تضاف إلى ذلك القدرات الروسية النووية التقليدية والابتكارات الصاروخية الكورية الشمالية، ما يعني أن قدرة الولايات المتحدة على فرض تفوق عسكري أحادي تتآكل تدريجيًا. إن النظام الأمريكي الذي كان يقوم على “عسكرة الردع” يجد نفسه أمام تحالف قادر على إضعاف مصداقيته الاستراتيجية.
  التحدي السياسي:  إن مشهد اصطفاف شي وبوتين وكيم يرمز إلى نشوء “كتلة رفض” صريحة ضد قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي.

 بكين تقدّم نفسها كقوة مسؤولة تُعلي من مبدأ السيادة وعدم التدخل، في مواجهة ما تصفه بـ “التدخلات الأمريكية” في شؤون الدول (تايوان، هونغ كونغ، أوكرانيا، الشرق الأوسط).  هذه الرمزية السياسية تؤسس لشرعية بديلة قد تستقطب دولًا في الجنوب العالمي تشعر بالإقصاء من النظام الليبرالي.
التحدي الاقتصادي : رغم استمرار تفوق الاقتصاد الأمريكي، إلا أن العرض العسكري ترافق مع رسائل حول صعود الصين كقوة اقتصادية–تكنولوجية قادرة على تقديم بديل للنظام المالي العالمي. مبادرات مثل “الحزام والطريق”، وتوجه موسكو نحو آسيا، والتقارب الاقتصادي مع بيونغ يانغ، تمثل محاولات لبناء فضاء اقتصادي موازٍ يقلل من هيمنة الدولار الأمريكي.
التحدي الأيديولوجي: أخطر ما يواجه النظام الأمريكي هو تآكل شرعيته الأيديولوجية. الديمقراطية الليبرالية، التي اعتُبرت “نهاية التاريخ” في تسعينيات القرن الماضي، أصبحت موضع تشكيك في ظل الأزمات الداخلية الأمريكية (الانقسام الحزبي، أزمات الشرعية، تراجع الثقة بالمؤسسات).  في المقابل، يعرض المحور الشرقي نموذجًا بديلًا يقوم على “السيادة المطلقة” و”التنمية دون شروط سياسية”، وهو خطاب يجد صداه في العديد من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
التحدي الاستراتيجي: العرض العسكري يكرّس انتقال النظام العالمي من هيمنة أمريكية شبه مطلقة إلى تعددية قطبية مضطربة، حيث تسعى واشنطن لإعادة بناء تحالفاتها (اليابان، كوريا الجنوبية، أوروبا) في مواجهة محور شرقي صاعد.
لكن التداعيات الأخطر تكمن في البعد النفسي والسياسي للحدث: فهو يوجّه رسالة إلى الرأي العام العالمي مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض إرادتها منفردة، وأن هناك بدائل يمكن أن توفر مظلة سياسية وعسكرية لدول تشعر بالضغط من الهيمنة الغربية.  وهذا ما قد يفتح الباب أمام دول من العالم النامي (أفريقيا، أمريكا اللاتينية، جنوب شرق آسيا) لإعادة التموضع استراتيجيًا، والاقتراب أكثر من محور بكين–موسكو–بيونغ يانغ، في مسعى للحصول على هوامش مناورة أوسع في مواجهة واشنطن.
بذلك، يمكن القول إن النظام الأمريكي يواجه اليوم لحظة حرجة شبيهة بلحظة ما بعد حرب فيتنام أو أحداث 11 سبتمبر، لكن هذه المرة في سياق دولي أكثر تعقيدًا. وإذا فشلت الولايات المتحدة في التكيّف مع التعددية الناشئة، فإن عرض تيانانمن قد يُسجَّل تاريخيًا كلحظة رمزية على بداية أفول الهيمنة الأمريكية التقليدية.
خامسا التداعيات المباشرة على النظام الأمريكي.
أعاد العرض العسكري الصيني الضخم في ساحة تيانانمن إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: إلى أي مدى لا تزال الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على موقعها كقوة مهيمنة في النظام الدولي؟ المشهد الثلاثي الذي جمع شي جين بينغ وفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون لم يكن مجرد استعراض للقوة العسكرية، بل رسالة سياسية–استراتيجية تمس جوهر النظام الأمريكي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة. ولعل أهم تداعيات هذا الحدث تتجلى في التحديات المباشرة التي تواجه واشنطن، والتي قد ترسم ملامح النظام العالمي في العقود القادمة 7.
1-إعادة عسكرة الاستراتيجية الأمريكية.
ستجد واشنطن نفسها مضطرة لإعادة النظر في استراتيجيتها الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فاستعراض الصين لأسلحة متطورة، إلى جانب الدعم الروسي والكوري الشمالي، يشير إلى أن ميزان القوة العسكري لم يعد يميل لصالح الولايات المتحدة بشكل مطلق. هذا الواقع قد يدفعها إلى تعزيز وجودها العسكري البحري والجوي في المحيطين الهادئ والهندي، وإلى تطوير برامج تسليحية جديدة لمجاراة التفوق النوعي الذي أظهرته بكين. غير أن مثل هذه الخطوات قد تفتح الباب واسعًا أمام سباق تسلح جديد، بما يفاقم من احتمالات المواجهة ويزيد من هشاشة الاستقرار الدولي.
2-تعميق التحالفات الغربية.
في مواجهة التكتل الشرقي الصاعد، من المرجح أن تعمد الولايات المتحدة إلى إعادة تفعيل شبكاتها التحالفية التقليدية وتعميقها. أوروبا، اليابان، وكوريا الجنوبية ستشكّل ركائز أساسية في الاستراتيجية الأمريكية المقبلة، ليس فقط لاحتواء النفوذ الصيني–الروسي، بل أيضًا لعزل كوريا الشمالية وإبقائها في موقع الدولة “المارقة”. قد يُترجم ذلك في صورة اتفاقيات دفاعية جديدة، زيادة في الإنفاق العسكري من جانب الحلفاء، أو حتى إنشاء تحالفات مصغّرة متخصصة في الردع التكنولوجي والعسكري. وبهذا، يتحول الحدث في بكين إلى ذريعة لإحياء الناتو وتعزيز تحالفات واشنطن الآسيوية ضمن رؤية شاملة لاحتواء المحور الشرقي.
3-أزمة شرعية داخلية وخارجية.
لكن التحدي لا يقتصر على البعد الخارجي. الولايات المتحدة تواجه أزمة شرعية مزدوجة: داخليًا بسبب الانقسام السياسي الحاد، تراجع الثقة بالمؤسسات، وتنامي النزعات الشعبوية؛ وخارجيًا نتيجة صعود بدائل جيوسياسية تقدم نفسها كنماذج أكثر احترامًا للسيادة الوطنية.

هذا التشكيك المتزايد في جدوى وشرعية “النظام الأمريكي” قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في قدرة واشنطن على فرض أجندتها الدولية. فبينما تسعى الصين وروسيا إلى إظهار نفسيهما كمدافعين عن نظام عالمي أكثر “توازنًا”، تجد الولايات المتحدة نفسها في موقع دفاعي، تحاول إثبات أن نموذجها لا يزال الأكثر فاعلية في تحقيق الاستقرار والازدهار.
4-تحول النظام الدولي نحو التعددية القطبية.
الاستعراض العسكري في بكين لم يكن مجرد تذكير بقوة الصين الصاعدة، بل إعلان ضمني عن بداية مرحلة جديدة من التعددية القطبية. لم يعد العالم محكومًا بمعادلة “القطب الواحد” كما بعد 1991، بل يتجه نحو نظام دولي يتقاسم فيه عدة فاعلين النفوذ، وإن في إطار مضطرب وغير مستقر. هذه التعددية ليست نتاج توافق دولي، بل ثمرة صراع مفتوح بين قوى ترى في نفسها بدائل للهيمنة الأمريكية. ومن هنا تكمن خطورة المرحلة: فهي ليست تعددية “منظمة”، بل تعددية متنازعة قد تفضي إلى أزمات إقليمية ودولية متلاحقة.
قراءة استشرافية.
يمكن النظر إلى هذا العرض العسكري بوصفه “لحظة سيكولوجية” فاصلة في مسار القوة الأمريكية. على غرار هزيمة سايغون عام 1975 أو أحداث 11 سبتمبر 2001، يمثل المشهد الثلاثي في بكين نقطة انعطاف، لكن الفارق أنه لم يأت من خصم واحد، بل من تحالف ثلاثي يجمع قوة اقتصادية عملاقة (الصين)، قوة عسكرية نووية كبرى (روسيا)، وقوة إقليمية “متمردة” (كوريا الشمالية). هذا التلاقي يعكس بداية تشكل محور قد يعيد رسم ملامح النظام الدولي. وإذا لم تنجح الولايات المتحدة في التكيف عبر إصلاح تحالفاتها، تحديث نموذجها الاقتصادي، ومعالجة أزماتها الداخلية، فإن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين قد يُسجَّل باعتباره بداية أفول “العصر الأمريكي” وبزوغ مرحلة جديدة من التعددية القطبية المتنازعة، ربما أكثر خطورة من الحرب الباردة نفسها.
يُظهر العرض العسكري الصيني الأخير في ساحة تيانانمن أنّ العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة من التحوّلات البنيوية العميقة، حيث لم يعد بالإمكان اختزال القوة في بعدها العسكري فحسب، بل أصبحت رسائل الاستعراض محمّلة بدلالات سياسية واستراتيجية تهدف إلى إعادة صياغة النظام الدولي. لقد كان مشهد اصطفاف شي جين بينغ، فلاديمير بوتين، وكيم جونغ أون على منصة واحدة بمثابة إعلان صريح عن تقارب ثلاثي يسعى إلى تحدي الهيمنة الأمريكية وتقديم بديل مغاير للمنظومة الليبرالية التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب الباردة.
على الصعيد العسكري، حمل العرض رسالة واضحة بأن الصين لم تعد قوة اقتصادية صاعدة فحسب، بل قوة عسكرية قادرة على مجاراة – بل ومنافسة – القدرات الاستراتيجية الأمريكية. وقد تعزّزت هذه الرسالة بوجود روسيا وكوريا الشمالية، ما يعني أن أي مواجهة محتملة مع الولايات المتحدة لن تكون مع طرف منفرد، بل مع محور قادر على فتح أكثر من جبهة في آن واحد، من تايوان إلى أوكرانيا وشبه الجزيرة الكورية.
أما على المستوى السياسي، فقد شكّل الاستعراض منصة لإعادة إنتاج خطاب السيادة ومقاومة التدخلات الخارجية، وهو خطاب يجد صدى واسعًا في الجنوب العالمي الذي يزداد تململاً من “المعايير المزدوجة” للنظام الغربي. ومن خلال استدعاء رمزية النصر في الحرب العالمية الثانية، نجحت بكين في إضفاء شرعية تاريخية على مشروعها المعاصر، في وقت تبحث فيه موسكو عن مخرج من عزلتها الدولية، وتسعى بيونغ يانغ إلى تعزيز موقعها التفاوضي.
استراتيجيًا، يعكس هذا اللقاء الثلاثي إرادة واضحة لإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي نحو تعددية قطبية، حتى وإن كانت هذه التعددية متنازعة وغير مستقرة. الصين تطمح إلى كسر احتكار واشنطن للتفوق التكنولوجي والاقتصادي، روسيا تسعى إلى استعادة مكانتها كقوة عظمى في مواجهة الناتو، وكوريا الشمالية توظف التحالف كدرع سياسي يقيها الضغوط الأمريكية. هذه الديناميات، وإن بدت متباينة، فإنها تلتقي في هدف مشترك: تقويض الهيمنة الأمريكية التقليدية.
على مستوى النظام العالمي، تكمن التداعيات الأعمق في ما يواجهه “النظام الأمريكي” من أزمة شرعية داخلية وخارجية. داخليًا، تضعف الانقسامات الحزبية وتراجع الثقة بالمؤسسات من قدرة واشنطن على قيادة العالم بثقة. وخارجيًا، يجد الكثير من الدول في خطاب بكين وموسكو بديلاً أكثر احترامًا لمفهوم السيادة، وهو ما قد يشجع قوى إقليمية أخرى على إعادة التموضع بعيدًا عن المحور الغربي. ومع أن الولايات المتحدة ستسعى بلا شك إلى إعادة عسكرة استراتيجيتها وتعميق تحالفاتها الغربية والآسيوية، إلا أنّ هذه الاستجابات قد تزيد من حدة الاستقطاب العالمي وتفتح الباب أمام سباق تسلح جديد.
في ضوء ذلك، يمكن اعتبار العرض العسكري في تيانانمن لحظة “نفسية–سياسية” فارقة في التاريخ المعاصر، شبيهة بلحظات سايغون (1975) أو 11 سبتمبر (2001)، لكنها هذه المرة مرتبطة بصعود محور ثلاثي قادر على تهديد ركائز النظام الدولي القائم.

وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من التكيّف مع هذه التحولات عبر تحديث نموذجها السياسي والاقتصادي وإصلاح أزماتها الداخلية، فإن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين قد يُسجَّل كبداية أفول “العصر الأمريكي”، وبروز تعددية قطبية متنازعة، تحمل في طياتها فرصًا لإعادة التوازن، لكنها أيضًا تنذر بفوضى وصراعات قد تجعلها أكثر خطورة من الحرب الباردة نفسها.
الخاتمة
يمكن القول إن سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية تجاه الشرق الأوسط جاءت امتدادًا لشعار “أمريكا أولًا”، لكن في سياق دولي أشد تعقيدًا. فقد ارتكزت هذه السياسة على تعظيم المصالح الاقتصادية والأمنية المباشرة، عبر صفقات السلاح والعقوبات الاقتصادية، وفي الوقت ذاته تقليص الانخراط العسكري المباشر. وبذلك، مثّلت مقاربة ترامب انتقالًا من التدخلية التقليدية إلى إدارة النفوذ من مسافة محسوبة، ما جعلها أكثر براغماتية وأقل التزامًا بالقيم أو المبادئ التي طالما شكّلت مكوّنًا للخطاب الأميركي الخارجي .
غير أنّ هذه الأولويات تركت تداعيات عميقة على البنية الإقليمية والدولية. فتعزيز التحالف مع إسرائيل وتوسيع التطبيع العربي–الإسرائيلي أدّيا إلى إعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط، لكن في المقابل زادا من تهميش القضية الفلسطينية وتصاعد التوتر مع إيران. كما أسهم الانكفاء العسكري النسبي للولايات المتحدة في خلق فراغ استراتيجي استغلته قوى منافسة مثل روسيا والصين لتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في المنطقة، وهو ما يهدد بتقليص الهيمنة الأميركية التقليدية .
استشرافًا للمستقبل، تبدو المنطقة أمام مسارات مفتوحة تتراوح بين التصعيد العسكري مع إيران، وتوسيع محور التطبيع العربي–الإسرائيلي، وانخراط محدود قائم على الردع عن بُعد. إلا أنّ القاسم المشترك بين هذه السيناريوهات هو استمرار اعتماد واشنطن على البراغماتية الصارمة وتفضيل الأدوات الاقتصادية والسياسية على التدخلات العسكرية المكلفة. ومن هنا، فإن سياسة ترامب مرشحة لإعادة هندسة المشهد الإقليمي بما يخدم المصالح الأميركية الآنية، لكنها في الوقت ذاته قد تزرع بذور أزمات أوسع تهدد الاستقرار على المدى الطويل .
في نهاية المطاف، يمكن القول إن العرض العسكري الصيني لم يكن مجرد استعراض رمزي للقوة، بل محطة مفصلية تكشف عن إرادة جماعية – صينية وروسية وكورية شمالية – لتقويض أسس النظام الأحادي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. غير أنّ السؤال الأعمق: هل نحن بالفعل بصدد ولادة محور جديد قادر على صياغة نظام تعددي بديل؟
الإجابة تتطلب التمييز بين القدرة على التحدي و القدرة على البناء. فمن جهة، أظهر هذا المحور الثلاثي أنه قادر على إرباك الاستراتيجية الأمريكية وفتح جبهات متعددة تضعف هيمنة واشنطن التقليدية، ما يؤشر إلى بداية تحوّل جيوسياسي لا يمكن إنكاره. ومن جهة أخرى، يبقى بناء نظام بديل مستقر أمرًا محفوفًا بالتحديات، نظرًا لاختلاف أولويات أطراف هذا المحور، وعدم امتلاكهم حتى الآن مؤسسات أو رؤية متكاملة قادرة على منافسة البنية الليبرالية الدولية التي أسستها الولايات المتحدة وحلفاؤها.
وعليه، فإننا أقرب اليوم إلى مرحلة انتقالية نحو تعددية قطبية متنازعة، لا إلى نظام عالمي جديد مكتمل الملامح. فالمحور الشرقي قادر على تقويض الهيمنة الأمريكية، لكنه لم ينجح بعد في تقديم نموذج بديل جامع. هذا الوضع يعني أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين سيشهد صراعًا مفتوحًا على قواعد النظام الدولي، حيث ستتأرجح موازين القوة بين محاولات واشنطن لترميم هيمنتها، ومساعي بكين وموسكو وبيونغ يانغ لفرض بديل يعكس مصالحها الاستراتيجية.


  طباعة  | |  أخبر صديقك  | |  إضافة تعليق  | |  التاريخ : 2025/09/05  | |  القرّاء : 43




عين شاهد
15 قسم
11443 موضوع
3617102 تصفح
الرئيسية
من نحن
إتصل بنا
العراق
السياسية
الأمنية
الإقتصادية
الرياضية
المحلية
كاريكاتير
العراق
صورة وخبر
الصحة
الأسرة والطفل
منوعات
دراسات و بحوث
أقسام أخرى
العالم
مقالات
تقارير
أرشيف
تابعونا





جميع الحقوق محفوظة © 2021 - 2025 تنفيذ، برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net